منتديات الانبا تكلا هيمانوت
 
jquery Ads




العودة   منتديات الانبا تكلا هيمانوت > المنتدى المسيحى > منتدى الكتاب المقدس > منتدى رجال ونساء الكتاب المقدس

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-20-2011, 01:33 AM
avatakla غير متواجد حالياً
مدير عام المنتدى

 

افتراضي باروخ

باروخ

"وأنت فهل تطلب لنفسك أموراً عظيمة . لا تطلب "

(إر 45 : 5)

مقدمة


لم يكن باروخ الكاتب نبياً أو ملكاً ، ولكنه كان - إذ صح التعبير - الساعد الأيمن لإرميا النبى ، وسعيد إرميا إذ عثر على هذا المساعد الأمين ، الذى عندما قدم نفسه للخدمة ، لم يقدمها طمعاً فى مال ، فأغلب الظن أنه كان من عائلة غنية شريفة ، ولم يقدمها طمعاً فى جاه ، إذ قبل على العكس أن يكون ثانياً للنبى ، عندما يريد الناس أن يعرفوه ، فإن معرفتهم به ستأتى خلال معرفتهم للنبى العظيم ، وإذا تحدثت قصته إلينا بشئ فإنها تؤكد أن خدمة اللّه ليست قاصرة على أصحاب الخمس الوزنات ، بل هى فى حاجة إلى أصحاب الوزنتين أيضاً ، وأن أعظم حركات التاريخ لم تتم بدون هؤلاء المساعدين الذين يقفون إلى جوار العظماء والأبطال ، كما وقف يشوع إلى جوار موسى ، وكما وقف أليشع إلى جوار إيليا ، وكما وقف تيموثاوس إلى جوار بولس ، إنهم قد يكونون من الرعيل الثانى فى الخدمة عندما يسقط الرداء عن الرعيل الأول ، ومهما يكن الدور الذى يلعبونه ، فقد يكون دور الغلام الصغير المساعد ، الذى كان لابد أن يقوم به ، عندما قدم الخمسة أرغفة من الشعير والسمكتين ، فصنع بها المسيح معجزة إطعام الخمسة اللاف رجل ما عدا النساء والأولاد .

وعلى هذا الأساس يمكن متابعة قصة باروخ فيما يلى :


باروخ : من هو

كان باروخ بن نيريا ، ونحن لا نعلم من هو نيريا هذا على وجه التحديد لكن العائلة - على الأغلب - كانت من العائلات الشريفة الارستقراطية ، إذ أن سرايا أخا باروخ ( إر 15 : 95 ) كان من الرؤساء الذين رافقوا الملك صدقيا إلى بابل ، و أو بعبارة أخرى ، كانت هذه العائلة من العائلات التى انتظم واحد من أبنائها فى السلك السياسى ، وآخر فى السلك الدينى ، .. واحد كان صديق الملك وفى معيته ، وآخر كان صديق النبى وفى صحبته ، ويبدو أن العلاقة بين سرايا وإرميا كانت طيبة ، وفى الغالب كان سرايا من الرجال الطيبين ، الذين مس اللّه قلبهم ، حتى أن إرميا كلف برسالة خاصة يحملها إلى بابل ، تحدث عن عمق إيمان النبى بمصير المدينة العظيمة التى أذلت بلاده ، وحطمتها تحطيماً : " الأمر الذى أوصى به إرميا النبى سرايا بن نيريا بن محسيا عند ذهابه مع صدقيا ملك يهوذا إلى بابل فى السنة الرابعة لملكه ، وكان سرايا رئيس المحلة فكتب إرميا كل الشر الآتى على بابل فى سفر واحد كل هذا الكلام المكتوب على بابل . وقال إرميا لسرايا إذا دخلت إلى بابل ونظرت وقرأت كل هذا الكلام ، فقل أنت يارب قد تكلمت على هذا الوضع لتفرضه حتى لا يكون فيه ساكن من الناس إلى البهائم بل يكون خرباً أبدية . ويكون إذا فرغت من قراءة هذا السفر أنك تربط به حجراً وتطرحه إلى وسط الفرات ، وتقول : هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبه عليها ويعيون " " إر 51 : 59 - 64 " .. ومهما تختلف الظروف الاجتماعية بين أخوين ، ومهما يكن خط كل واحد منهما ، فيكون الواحد فى القصر الملكى ، ويكون الآخر فى الكوخ الصغير ، فإنه لا يجوز لأحدهما أن يتعالى على الآخر ، وعلى كل منهما أن يتمم رسالته ، ويؤديها مهما يكن حظه أو وضعه فى الحياة !! .. ومهما يكن من وضع باروخ ، فمما لا شك فيه ، أن الرجل كان آية فى الوداعة والتواضع ونكران الذات ، وذلك لأنه جاء دائماً ثانياً بعد إرميا وفى موضع الظل منه ، .. فهو لم يضع حساباً لأصله وفصله كما تعود الناس أن يأخذوا هذا فى الاعتبار والحسبان . وهو لا يمانع فى خدمة إرميا وحمل حذائنه ، والمسير معه ، والمبيت على الطوى ، دون أن يرى فى هذا أية مهانة أو تحقير لحياته ومركزه ، .. ومع ذلك فقد كان الرجل شجاعاً ، ولعله كان من أشجع الناس فى جيله، لقد كان عليه أن يحمل رسالة إرميا الثقيلة ضد الملك ورؤساء البلاد بل وضد الشعب نفسه ، ولا يستطيع أن يفعل ذلك إلا من بلغوا أعلى درجات الجسارة والبطولة ، .. من السهل جداً أن يصفق الناس لمن يرضى عليه الرئيس أو لملك ، أو من يتمشى مع لغة الجماهير والشعوب ويتملقها ، ... ولكن أصعب الصور أن يسبح الإنسان ضد التيار مهما كان عاتياً وقوياً ، .. وكان باروخ بهذا المعنى فى مواجهة التيار بل كان باروخ ، أكثر من هذا ، من أخلص الناس وأوفاهم ، لقد ظل فى صحبة النبى وخدمته عشرين عاماً على الأقل ، وقد صاحبه ، لا فى مختلف الظروف فحسب ، بل فى جولاته وتنقلاته ، وقد ذهب معه إلى مصر ، وهكذا كان الرفيق الوفى الأمين لنبى الأحزان ، ... وإذا كان الناس قد درجوا فى العادة على الفخر بالوفاء والإخلاص لمن ضحكت لهم الحياة وابتسمت الدنيا ، فإن الوفاء الأصدق والأعمق يبدو فى الحقيقة عندما تأتى المحن والآلام ، ... كان فخر لوقا أن بولس وصفه بالقول : " لوقا وحده معى " ، .. " 2 تى 4 : 11 " فى الوقت الذى قال فيه : عن الآخرين فى احتجاجى الأول لم يحضر أحد معى بل الجميع تركونى لا يحسب عليهم " !! .. " 2 تى 4 : 16 " وهكذا جاء باروخ ليعطى صورة للوفاء والولاء ، عندما عز هذا أو ذهب من بين الناس !! ..


باروخ والرسالة التى كلف بها

لعل من أهم الحوادث فى حياة الرجل ، الرسالة التى أوصاه إرميا النبى أن يكتبها ، ويقرأها فى بيت اللّه ، فى الهيكل ، ويبدو أن عداء الرؤساء كان مستحكماً ضد إرميا ، إذ منعوه من الدخول إلى البيت المفدى ، بل كان محرماً عليه أن يدنو منه ، .. ولما لم يجد سبيلا إلى الاتصال بالشعب،أملى الرسالة إلى باروخ وكلفه أن يقرأها فى آذان الشعب ، وإذ قرأها ، وكانت تتحدث عن عقاب أورشليم ويهوذا الرهيب نتيجة لخيانتهم الرب ، وكان هذا كثيراً على الكهنة ، والملك الذى بدلا من أن يتعظ ويتوب كما فعل يوشيا ، ارتكب الحماقة الكبرى ، إذ حاول القضاء على الكلمة وعلى الرسول الذى أعلنها ، وعلى النبى المرسل بها من اللّه ، .. كان يهوياقيم عندما قرأوا أمامه بعضاً من الرسالة جالسا فى بيت الشتاء يستدفئ ، ولم يطق الملك سماع الرسالة المرسلة ، فأخذ مبراة ومزق بها الكلمة ، وألقى بها فى النار وظن أنه بذلك استطاع أن يتخلص منها وينتهى" انظر إر 36 : 20 -32 " ، وهو لا يعلم بأن ما مزقه ، لن تحرقه النيران ، إذ عاود إرميا وكتبه مرة أخرى بصورة أقسى وأشد ، وحمل باروخ مرة أخرى الكلمة التى يحسن أن نقف لنراها ، فيمن لا يزالون إلى اليوم يحاولون حرقها ، ومع أننا لا نستطيع أن نعدد أنواعهم لكننا على الأقل يمكن أن نرى أشهرهم فى جماعات الملحدين الذين لا يؤمنون باللّه ، وعندما تقدم كلمته لهم ، لا نسمع منهم سوى كلمات السخرية والهزء ، فالكتاب فى نظرهم قصة خرافية قديمة لا يأبهون لها ، أو يتأملون فيها ، وكم من الفلاسفة والناقدين والمتهجمين ، من مد يده بجرأة وكبرياء ودون تعقل إلى الكتاب العظيم ، وأمسك مبراته ومزقه ورمى به فى النيران ، .. وهى كبرياء العقل البشرى ، وسيتبين لنا عما قليل ، حماقة هذا العقل وقصوره عن الرؤية الصحيحة للكتاب ، .. وهناك جماعات السياسيين ، الذين مزقوا الكتاب المقدس بدافع من سياستهم التى لم تستطع أن تعطى ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه ، .. وهناك أيضاً جماعات المتعصبين ، الذين أعماهم التعصب الدينى ، وهم لا يريدون للكتاب انتشاراً ، فقاوموا ترجماته ، ليفسروه كما يحلو لهم ولرجال الكهنة فيهم ، .. وتعيش الشعوب أسرى تقاليدهم التى ما أنزل اللّه بها من سلطان ، ... وهناك أيضا المهملون الذين قد ينتسبون إلى المسيحية ، وقد نجد فى بيوتهم كل شئ إلا نسخة من الكتاب المقدس ، ... وقد نجد الكتاب ، ولكن قد غطاه التراب إذ هو أقرب الأشياء إلى التحف التى يراها الإنسان كصورة أو زينة ، .. ومن الغريب أن وقت هولاء يتسع لقراءة مختلف الكتب والدراسات ، لكنه لا يتسع مطلقاً لدراسة الكلمة الإلهية أو قراءتها ، أو الإلمام بما فيها ، ... وهناك أيضاً الخطاة المتعلقون بشرورهم وخطاياهم ، وهم لا يقبلون الكلمة الإلهية التى توبخ خطاياهم ، أو كما قال السيد المسيح : " وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة لأن كل من يعمل السيآت يبغض النور ولا يأتى إلى النور لئلا توبخ أعماله " " يو 3 : 19 و 20 " .. وهؤلاء جميعاً يتوجون يهوياقيم بن يوشيا ملكاً عليهم ، ويحمل كل واحد منهم مبراته ليمزق الكلمة الإلهية ويلقى بها فى النار !! .. على أن السؤال هو هل استطاع هؤلاء الرافضون أن يتخلصوا من الكتاب المقدس ، ومن سلطانه الأبدى عليهم ؟؟ .. كلا وإلى الأبد كلا !! إذ أن نيران التاريخ كلها أعجز من أن تنتصر على كتاب اللّه ، ... عندما ترجم وليم تندال العهد الجديد ، وأقبل الناس على شرائه ، أرادته الحكومة الانجليزية فى ذلك الوقت منع هذه الترجمة ، فسعت إلى جمع النسخ وشرائها بأى ثمن وأحرقتها ، وكان تندال فى حاجة إلى المال ليتوسع فى نشر الكتاب ، ومن المال الذى وصل إليه ، نتيجة شراء الحكومة الإنجليزية للكتاب لحرقه ، استطاع أن يترجم الكتاب المقدس بأكمله ، وينشره بين الناس ، ولعلنا نذكر ما قاله فولتير عندما قال : إن هذا الكتاب سينتهى بعد خمسين سنة ، ولم يحلم فولتير بأن بيته سيكون فى ذلك التاريخ الدار التى يطبع فيها الكتاب المقدس ، ويخرج منها إلى فرنسا وغير فرنسا !! ... ومن المثير أن الألمان النازيين عندما أحرقوا الكتب الدينية والمقدسة ، وقال جوبلز إننا نضع الآن أساس حرية جديدة ، وروح جديدة ، وبهما سنغلب ، لم يكن يعلم أن صحيفة ألمانية ستكتب بعد سقوط النازية : إن، الكتاب المحترق مايزال يعيش!!... كان الملك يهوياقيم أحوج الكل إلى كلمة اللّه ، ... كانت مصر تستعبده ، وبابل تهدده ، والظروف الضيقة تحيط به من كل جانب ، وكان فى حاجة إلى صديق ومرشد ومنبه ومحذر ، وكانت كلمة اللّه يمكن أن تكون هذه جميعها له ، ولكنه لم ينتفع بالكلمة كما انتفع أبوه يوشيا بها ، وكانت خسارته لذلك فادحة وقاسية ، ... وليس هناك من خسارة تعدل خسارة إنسان لا يقرأ الكلمة الإلهية ، أو يطوح بها ، أو يحرقها ، أو يلقى بها فى طريق حياته ، وموكبه الأرضى ، ... وإذا كانت توماس كارليل قد قال : إنه من وقت عصا موسى حتى اليوم ليس هناك قوة تضارع قوة العلم ، ... وهو يقصد بذلك أثر الكلمة المكتوبة فى حياة الناس ، ومما تفعله الصحف والكتب والمجالات ، فإنه مما لا شك فيه أن الكلمة الإلهية تقف من كل كلمة أخرى مكتوبة الموقف الذى ذكره إرميا حين قال : " ما للتبن مع الحنطة يقول الرب ، أليست هكذا كلمتى كنار يقول الرب وكمطرقة تحطم الصخر " ؟ .. " إر 23 : 28 و 29 " ، أو بعبارة أخرى، إن الفارق بين كلمة البشر ، وكلمة اللّه ، هو الفارق بين التبن والحنطة ، ... وكل الاثار التى يمكن أن يتمخض عنها كلام البشر ، وإذا قورنت بالكلمة الإلهية ، هى التبن عندما يقارن بالحنطة إذ صح أن نقارن بين الاثنين ، ... فالتبن بادئ ذى بدء خفيف وكلام البشر كاذب يطير فى الهواء إذا قورن بالصدق الإلهى ، ... وما أكثر كذب الناس أو نفاقهم الذى تمتلئ به الصحف والمجلات والكتب كل يوم بالمقارنة أو الموازنة مع الحق الإلهى !! .. والتبن ليس غذاء للإنسان ، بل هو طعام الحيوان والكلمة البشرية فى سداها ولحمتها ، ليست إلا غذاء للحيوانية الكامنة فى الإنسان ، ويوجد كثيرون من الكتاب لا يفعلون شيئاً من وراء الكلمة التى يكتبونها سوى إشباع الحيوانية فى الإنسان ، أو إرضاء النزوات الحسية أو الاجتماعية ، ويحتاجون إلى من يصرخ فيهم ، هذا كذب ، وبهتان وتضليل ، وهوس وحشى حيوانى !! .. والتبن رخيص ، وكل أدب إذا قورن بأدب الكتاب هو أدب رخيص وتافهه وحقير ،... والتبن تذروه الرياح سريعاً ، وتلتهمه النيران فى ومض البصر !! .. وكذا الكلام البشرى أمام الحق الإلهى واللهيب الأبدى !! ... وعلى العكس من ذلك كلمة اللّه التى هى الحنطة المشبعة ... كان شيشرون عندما يخطب يعتقد أنه يقول الحق تماماً ، ... وعندما يذهب إلى بيته يتساءل : هل كل ما قاله حق تماماً ، ... لكن كلمة اللّه تشبع على الدوام الفكر والمشاعر والإرادة ، ... إنها الحنطة الحقيقية للإنسان ، ... وهى إلى جانب ذلك الكلمة الملهبة إذ أنها نار ، والنار تضئ قبل ان تحرق ، ... وكلمة اللّه هى النور المرسل لإنسان يعيش غارقاً فى الظلام - وهى النار المحرقة التى تحرق كل كذب وضلال ..


وجاء فى أسطورة قديمة أن هناك سائلا إذا شربه أى إنسان فإنه يضحك ويظل يضحك حتى يموت من الضحك ، ... وما أكثر ما تكون هكذا كلمات البشر التى تخدع الإنسان وتضحكه ، وكان أولى بها أن تبكيه ، لو أنها كانت بحسب الحق الذى يعلنه اللّه القدير فى كتابه ، والذى يحرق الأوهام والأضاليل ، ويضع الحقيقة مجردة وعادية أمام الإنسان ، .. والكلمة الإلهية هى أيضاً ، المطرقة التى تحطم الصخر ، والإنسان إذا قسا قلبه وتحجر واستعبد للتقاليد والعادات الاثمة والشريرة ، فليست هناك قوة تستطيع أن تحطم عنفه وقسوته وشره كما تفعل كلمة اللّه ، ... ولعل يهوياقيم بن يوشيا كان فى حاجة إلى هذه الكلمة التى رق أمامها قلب أبيه العظيم الملك يوشيا !!


باروخ والعظمة المهجورة

قال اللّه لباروخ : " وأنت فهل تطلب لنفسك أموراً عظيمة ؟ لا تطلب " . ولعل باروخ كإرميا ضاق بالالام التى أحاطت به ، والمتاعب التى توالت فى حياته ، فى أيام امتلأت بالاضطهاد والمشقة والأحزان ، ... وربما جرب كإنسان ، عندما كان أخوه فى القصر الملكى ، يتمتع به الساكنون فى القصور ، ... لماذا لا يكون كأخيه ، واحداً من عظماء الأمة ، وسادة القوم ألم تلده أمة ، كما ولدت أخاه !! ؟ وألم ينشأ فى بيت واحد، فلماذا ينعم أخوه بما ينعم به العظماء فى الأرض ، ويبقى هو على حظ من المعاناة والمتاعب ! فى الحقيقة إن هذه تجربة البيوت العظيمة فى الأرض ، عندما يتراجع أو يتقاعس أولادها عن الخدمة الدينية ، لما قد يكون فى هذه الخدمة من عار أو تعب أو مشقة أو ضيق ، ولكن أولئك الذين دخلوا الخدمة ، وكانوا من أعظم البيوت على الأرض ، لم يترددوا قط فى إدراك الحقيقة التى ملأت قلب موسى الذى " لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنه فرعون مفضلا بالأحرى أن يذل مع شعب اللّه على أن يكون له تمتع وقتى بالخطية ، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر " عب 11 : 24 - 26 " . واستولت على مشاعر يوسف حتى حمل شعبه الرسالة أن تؤخذ عظامة عند رحيلهم من مصر ، مع أنه كان يمكن أن يفاخر بأنها تتحنط لتغالب الأيام والليالى كجثث المصريين المحنطة ، ... وهى التى دعت نحميا إلى أن يرى فخره العظيم ، لا فى أن يكون ساقياً للملك ، أو وزيراً مفضلا فى قصره بل بالأحرى ، أن يقف على أكوام التراب فى مدينة ابائه المحترقة ، كى يرممها ويعيد أسوارها من جديد !! .. وهى التى جعلت دانيال ورفاقه من الشرفاء ، أن يتطلعوا بأحلامهم وخيالهم ، من البلاد البعيدة ، نحو المدينة التى أسروا منها ، ولكنها كانت آسرة لقلوبهم وعواطفهم فى السبى والمنفى ، ... كان باروخ يدرك ما هى العظمة الحقيقية ، إذ أنها ليست المنبت العريق أو القصور الشامخة الماضية ، ... بل هى الحقيقة الكامنة فى أعماق الإنسان نفسه حيث يمكن بشخصه ، دون بيته ، أن يكون عظيماً أو غير عظيم ، ... كان اثنان يتجادلان ، وكان أحدهما يفخر بعائلته ، ويقول للآخر : وأنت من أنت !!؟ ... وأجابه الآخر : إن فضيلتى تبدأ من حيث تنتهى فضيلتك ، إذ حسن أن تكون من عائلة عظيمة وعريقة ، ولكن الأفضل لا أن تنبت من عائلة عظيمة ، بل أن تكون أنت فى ذاتك عظيماً ! . وكان باروخ ، بهذا المعنى ، على عكس الظاهر ، أعظم من أخيه سرايا ، الذى وإن كان كما يبدو من اللغة الكتابية ، رجلاً كريماً طيباً ، لكنه لا يمكن أن يرقى بحال ما إلى شخصية أخيه الذى عاش مع إرميا وفى خدمة اللّه !! ... إن نقطة العظمة الصحيحة تبدأ من علاقة الإنسان باللّه ، ... عندما زار مارك نوين أوربا ، استقبله المللوك والأمراء ، وأفردت له الصحف مكاناً كبيراً على صفحاتها ، وفى عودته إلى أمريكا قال له ابنه الصغير على ظهر الباخرة : يا أبى يخيل إلى أنك أصبحت تعرف جميع الملوك والأمراء والعظماء ، ولم يبق إلا اللّه لتعرفه !! .. وأنها لأكبر مأساة على الأرض أن يعرف الناس العظمة بهذا المعنى فيعرفون ويعرفون إلا من اللّه ، ... إن الشهرة طبل أجوف لا يلبث ان ينتهى أو يضيع ، ولعل اللّه وهو يقول لباروخ لا تطلب لنفسك أموراً عظيمة ، كان يقصد أن يذكره بهذه الحقيقة التى ربما غابت عنه وراء التجارب والمحن التى أحاطت بحياته !! .

وما أكثر الأخطار التى تلحق بالإنسان من العظمة حسب مفهوم الناس ، وهو يوم ينسى اللّه ، أو يهمل الشركة معه ، سيتعرض للكثير من التجارب الروحية والأدبية ، إذ يتعرض للانانية وحب الذات ، والرغبة الكاملة فى أن يعيش جيله وعصره ، تسلط عليه الأضواء ، ويلمع اسمه بالنور ، وإلا فإنه سيقاتل ويصارع ، ويسحق كل من يحاول أن يقف فى طريقه ، أو يضعه فى الظلال أو الظلام ، ... وهو على استعداد أن يفعل ذلك ، فى نطاق الحياة العالمية أو الكنسية أيضاً ، ألم يفعل هذا ديو تريفس الذى يحب أن يكون الأول ، وهو على استعداد أن يفعل كل شئ فى سبيل ذلك إلى الدرجة التى فيها لا يقبل الرسول يوحنا ، ويهذر عليه بأقوال خبيثة ، ولا يقبل الأخوة ، ويمنع أيضاً الذين يريدون ويطردهم من الكنيسة ، " انظر 3 يو : 9 و 10 " .. كما يتعرض الباحث عن العظمة إلى ما يخف بها من حياة الترف والدعة أو الكسل ، أو حياة الكأس والطاس ، دون أن يبالى بآلام الآخرين أو تعاساتهم أو أحزانهم أو ماسيهم ، وكان باروخ مجربا بهذه كلها ، ومن ثم قال له : " وأنت فهل تطلب لنفسك أمورا عظيمة ؟ لا تطلب " ..


باروخ والضمان الإلهى

لا يستطيع الإنسان أن يفهم الضمان الإلهى لباروخ إلا إذا ذكر أن هذا الضمان جاءه فى عام 605 ق . م . عندما قام نبوخذ ناصر بغزواته الواسعة ، فقضى على اشور فى عام 613 وتحول إلى مصر فى موقعه كركميش المشهورة ، وانتصر على فرعون نخو ، وكان نبوخذ ناصر فى اكتساحه للأمم والممالك ، أشبه بهتلر فى اكتساحه لغرب أوربا فى الحرب العالمية الأخيرة حيث ترك وراءه الفزع والرعب والحيرة والقلق فى كل مكان ، ولا شبهة فى أن باروخ كان كإرميا مشغولا بمصير بلاده ووطنه ، وزادته نبوات إرميا حزناً على حزن ، وألماً على ألم ، وعندما كانت بنفسه أفكار العظيمة التى يحلم بها ، ولماذا لا يكون على الأقل مثل أخيه فى القصر الملكى ؟ ... أعطاه اللّه الصورة المروعة للخراب الذى ستصل إليه بلاده ، ... : " هأنذا أهدم ما بنيته ، واقتلع ما غرسته وكل هذه الأرض " ( إر 54 : 4 ) ولعله قد أبصر المصير التعس الذى سيذهب إليه أخوه نفسه ، الذي سيهوى مع الملك صدقيا من حالق ، ويساق وإياه إلى السبى القاسى فى بابل ، وهو لن يأسف على العظمة الضائعة لبلاده فحسب ، بل على المصير المحزن للاخ الذى تاق أن يكون مثله !! .. وقد قصد اللّه أن يريه قصة العظمة البشرية التى مهما علت ، فإنها فى سبيلها إلى الحضيض والرماد ، ... ولست أظن أن هناك صورة تتفوق على ماكتبه إرميا عن مصير بابل المؤكد مما أشرنا إليه قبلا ، وكيف أن المدينة ، فى أعلى مجدها وقمته ، ستغرق إلى الأبد دون أن تقوم لها قائمة إذ هى رمز للشر والفساد اللذين مهما علا فعلهما وامتد ، فإنه سيسقط ، كما صاح الرائى فى روياه العظيمة : " سقطت سقطت بابل العظيمة .. من أجل ذلك فى يوم واحد ستأتى ضرباتها موت وحزن وجوع وتحترق بالنار لأن الرب الإله الذي يدينها قوى . وسيبكى وينوح عليها ملوك الأرض الذين زنوا وتنعموا معها حينما ينظرون دخان حريقها ، واقفين من بعيد لأجل خوف عذابها قائلين : ويل ويل . المدينة العظيمة بابل المدينة القوية ، لأنه فى ساعة واحدة جاءت دينونتك " .. " رؤ 18 : 2 و 10 "وكل عظمة بشرية ، طال الزمان عليها أو قصر ، مصيرها إلى الضياع والهلاك ، لأن يد اللّه القوية تتعقبها فى كل مكان ، وتغرقها كالحجر الذى يسقط فى نهر الفرات !! ..

على أنه على قدر ما يحدث من اضطراب أو فزع لجميع الشعوب والناس ، فإن المؤمن سيبقى على الدوام محروساً باللّه مضموناً بقدرته وقوته ، وأينما يذهب باروخ وأينما يتنقل ، وفى الوقت الذي يجلب فيه اللّه الشر على كل ذي جسد : " أعطيك نفسك غنيمة فى كل المواضع التى تسير إليها " .. " إر 45 : 5 " فإذا كان إرميا قد طوحت به الحياة ، وباروخ معه ، ورأيا روى العين ، الهجوم الذي دمر أورشليم ، والجماعات التى ألزمتهما بالذهاب معها إلى مصر ، .. فهما فى أى مكان فى الأرض ، وفى وسط الحروب والقلاقل والفزع الذى يكتسح العالم بأجمعه يعلمان تمام العلم ، أن المؤمن آمن لأنه فى قبضة يمين القادر على كل شئ ، ... ولعلهما غنياً معاً ، أو غنى الواحد منها : " الساكن فى ستر العلى فى ظل القدير يبيت أقول للرب ملجأى وحصنى إلهى فأتكل عليه . لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوبأ الخطر . يخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمى - ترس ومجن حقه - لا تخشى من خوف الليل ولا من سهم يطير فى النار ، ولا من وبأ يسلك فى الدجى ولا من هلاك يفسد فى الظهيرة ، يسقط عن جانبك ألف وربوات عن يمينك . إليك لا يقرب إنما بعينيك تنظر وترى مجازاة الأشرار " .. " مز 91 : 1 - 8 " .
التوقيع: [frame="14 98"]






[/frame]
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:09 PM


† هدف خدمتنا: "‎ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب‎" مزمور 34 : 8 †
† مبدأ خدمتنا: "ملعون من يعمل عمل الرب برخاء‎" ارميا 48 : 10 †
† شعار خدمتنا: "ليس لنا يا رب ليس لنا لكن لاسمك أعط مجدا‎" مزمور 115 : 1 †