منتديات الانبا تكلا هيمانوت
 
jquery Ads




العودة   منتديات الانبا تكلا هيمانوت > المنتدى المسيحى > منتدى التأملات

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-26-2008, 04:25 PM
m.fyez غير متواجد حالياً

 

افتراضي البشارة بالتجسد الإلهى

البشارة بالتجسّد الإلهي

[ لوقا 1 : 26 – 56 ]
"وفي الشهر السادس أٌرسل جبرائيل الملاك من الله
إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة،
إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف
واسم العذراء مريم..." [26-27].
أولاً: منذ خمسة أشهر سبق فبشَّر الملاك زكريَّا الكاهن، والآن مع بداية الشهر السادس جاء يبشِّر القدّيسة مريم، لكن شتَّان بين البشارتين. حقًا إن البشارة الأولى تمَّت داخل الهيكل أثناء العبادة الجماعيّة، رافقها زكريَّا أمام الجميع وتحدَّث عنها الكهنة، إذ تمَّت مع زميلهم الكاهن، لكن كانت بشارة بميلاد أعظم مواليد النساء يوحنا السابق خادم الكلمة؛ أما البشارة الثانية فتمَّت في بيت مجهول في قريّة فقيرة بطريقة سريّة لم يلمسها حتى صاحب البيت نفسه "يوسف النجار"، وقد كانت بشارة بتجسّد الكلمة ذاته! لقد أخلى الابن ذاته، حتى في البشارة به لم تتم به بين كهنة، ولا في داخل الهيكل، ولا على مستوى الجماعة، إنما تمَّت مع فتاة فقيرة في مكان بسيط.
ثانيًا: أٌرسل الملاك إلى "عذراء مخطوبة لرجل"، لماذا لم يُرسل إلى عذراء غير مخطوبة؟
أ. يجيب العلامة أوريجينوس بأن وجود الخاطب أو رجل مريم ينزع كل شكٍ من جهتها عندما تظهر علامات الحمل عليها، ويقول القدّيس أمبروسيوس: [ربَّما لكي لا يُظن أنها زانية. ولقد وصفها الكتاب بصفتين في آن واحد، أنها زوجة وعذراء. فهي عذراء لأنها لم تعرف رجلاً، وزوجة حتى تُحفظ ممَّا قد يشوب سمعتها، فانتفاخ بطنها يشير إلى فقدان البتوليّة (في نظر الناس). هذا وقد اِختار الرب أن يشك البعض في نسبه الحقيقي عن أن يشكُّوا في طهارة والدته... لم يجد داعيًا للكشف عن شخصه على حساب سمعة والدته.]
سبق لنا دراسة الخطبة والزواج حسب التقليد اليهودي، وكيف كانت الخطبة تعادل الزواج حاليًا في كل شيء ماخلا العلاقات الجسديّة، لهذا دعيت القدّيسة مريم "امرأة يوسف".
ب. يرى العلامة أوريجينوس نقلاً عن القدّيس أغناطيوس أن وجود يوسف يشكِّك الشيطان في أمر المولود ويُربكه من جهة التجسّد الإلهي. وقد قدَّم لنا القدّيس أمبروسيوس ذات الفكر حين قال: [هناك سبب آخر لا يمكن إغفاله وهو أن رئيس هذا العالم لم يكتشف بتوليّة العذراء، فهو إذ رآها مع رجلها لم يشك في المولود منها، وقد شاء الرب أن ينزع عن رئيس هذا العالم معرفته. هذا ظهر عندما أوصى السيِّد تلاميذه ألا يقولوا لأحد أنه المسيح (مت 16: 22)، كما منع الذين شفاهم من إظهار اسمه (مت 5: 4) وأمر الشيَّاطين ألا تتكلَّم عن ابن الله (لو 4: 35). يؤيِّد ما ذكره الرسول أيضًا: "بل نتكلَّم بحكمة الله في سّر، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا، التي لم يعملها أحد من عظماء هذا الدهر، لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 7-8)... إذن لقد توارى الرب عن إبليس لأجل خلاصنا. توارى لكي ينتصر عليه، توارى عنه في التجربة، وحين كان يصرخ إليه ويلقبِّه "ابن الله" لم يؤكِّد له حقيقة لاهوته. توارى الرب أيضًا عن رؤساء البشر. وبالرغم من تردّد إبليس حين قال: "إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل" (مت 4: 6) إلا أن الأمر قد انتهى بمعرفته إيَّاه، فقد عرفتْهُ الشيَّاطين حين صرخت: "ما لنا ولك يا يسوع ابن الله أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذِّبنا؟!" (مت 8: 29). لقد عرفتْه الشيَّاطين إذ كانت تترقَّب مجيئه، أما رؤساء العالم فلم يعرفوه... استطاع الشيطان بمكر أن يكشف الأمور المكتوبة أما الذين اقتنصتهم كرامات هذا العالم فلم يستطيعوا أن يعرفوا أعمال الله.]
ثالثًا: كرَّر الإنجيلي كلمة "عذراء" وكأنه أراد تأكيد عذراويَّتها ليعلن أن السيِّد المسيح ليس من زرع بشر. هذا ما أعلنه حزقيال النبي بقوله عن الباب الشرقي: "هذا الباب يكون مغلقًا لا يُفتح، ولا يدخل منه إنسان، لأن الرب إله إسرائيل دخل منه فيكون مغلقًا، الرئيس، الرئيس هو يجلس فيه" (حز 44: 2-3). ولذلك جاء في الطقس البيزنطي عن السيِّدة العذراء: [السلام لكَ، أيها الباب الفريد الذي عبر منه الكلمة وحده.]
إنها عذراء وزوجة (عروس) في نفس الوقت، إذ تمثِّل العضو الأول في الكنيسة العذراء عروس المسيح، وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [كانت مريم الزوجة العذراء تمثِّل في آن واحد الكنيسة العروس التي بلا عيب. فالكنيسة عروس المسيح البتول، حبلت بنا بالروح القدس وولدتنا بغير ألم، ومريم حبلت بالروح لا بالزواج، وهكذا صارت تمثِّل كل الكنائس التي تثمر بالروح والنعمة، وإن كانت تتَّحد ظاهريًا تحت لواء راعٍ بشري.]
يقول القدّيس أغسطينوس: [كما ولدت مريم ذاك الذي هو رأسكم، هكذا ولدتكم الكنيسة، لأن الكنيسة هي أيضًا أم وعذارء، أم في أحشاء حبنا، وعذراء في إيمانها غير المزعزع. هي أم لأمم كثيرة الذين يمثِّلون جسدًا واحدًا، وذلك على مثال العذراء أُم الكثيرين وفي نفس الوقت هي أُم للواحد.]
يقول القدّيس كيرلس الكبير: [لنُطوِّب مريم دائمة البتوليّة بتسابيح الفرح، التي هي نفسها الكنيسة المقدَّسة.]
رابعًا: يحدّد الإنجيل اسم المدينة التي جاء إليها الملاك ليلتقي بالقدّيسة العذراء مريم، وهى "ناصرة". مدينة في الجليل بشمال فلسطين، تبعد 88 ميلاً شمال أورشليم، و15 ميلاً جنوب غربي طبريّة. عاش فيها القدّيس يوسف والقدّيسة العذراء مريم، وقد قضى السيِّد المسيح القسط الأوفر من الثلاثين عامًا الأولى في حياته فيها (لو 3: 23؛ مر 1: 9)، فدُعيَ بالناصري (مت 12: 11؛ مر 1: 24). إذ بَدَأ رسالته رفضَهُ أهلها مرّّتيْن (لو 4: 28-31؛ مت 4: 13؛ 13: 54-58؛ مر 6: 1-6). تقع على تل (لو 4: 29)، ولم يكن لها أهميّة تُذكر، فلم ترد في العهد القديم، ولا في وثائق الدول العظمى قبل مجيء المسيح، ولا في كتابات المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس. لعلَّ كلمة "ناصرة" تعني "قضيب" أو "غصن"... ولهذا السبب كثيرًا ما دُعي السيِّد المسيح بالغُصن.
خامسًا: جاءت تحيّة الملاك: "سلامٌ لكِ أيَّتها الممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء" [28]. لم تكن بالتحيّة العاديّة وإنما جاءت تحيَّة فريدة، حملت كل معنى الفرح، فالكلمة اليُّونانيّة "شيريه" التي تُرجمت هنا "سلام" ورد فعلها حوالي 80 مرة في الترجمة السبعينيّة للعهد القديم، تُرجم نصفها "يفرح" والنصف الآخر استخدم للتعبير عن فرح شعب الله بعمل مثير يمس خلاصهم. وكأن القدّيسة مريم قد نالت باسم الكنيسة كلها التي هي عضو فيها فرحًا فائقًا خلال تجسّد الله الكلمة وحلوله فيها.
فيما يلي بعض التعليقات للآباء على هذه التحيّة الفريدة:

+ هذا الميلاد مطلقًا هو نعمة، فيه تمَّ الاتِّحاد، اتِّحاد الإنسان بالله، والجسد بالكلمة... لم تكن الأعمال الصالحة هي الاستحقاق لتحقيقه.
القدّيس أغسطينوس

+ التحفت بالنعمة الإلهيّة كثوب،
امتلأت نفسها بالحكمة الإلهيّة،
في القلب تنعَّمت بالزيجة مع الله،
وتسلَّمت الله في أحشائها!
الأب ثيؤدسيوس أسقف أنقرة

سمعت القدّيسة مريم الملاك يقول لها: "الرب معكِ"، وكان لهذا التعبير مفهومه الخاص بالنسبة لها، فقد ذاقت معيّة الله على مستوى فريد، إذ حملت كلمة الله في أحشائها، وقدَّمت له من جسدها ودمها!
"مباركة أنت في النساء"... وكما يقول العلامة أوريجينوس: [الفرح الذي بوَّق به جبرائيل لمريم نزع حكم الحزن الصادر من الله ضد حواء]، [كما بدأت الخطيّة بالمرأة وبعد ذلك عبرت إلى الرجل، هكذا بدأت البشارة بالنسوة (مريم واليصابات).]
سادسًا: "فلما رأتهُ اضطربت من كلامه وفكَّرت ما عسى أن تكون هذه التحيّة. فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله" [29-30].
يقول القدّيس جيروم: [لقد اضطربت ولم تستطع أن تجاوبه، إذ لم يسبق لها أن قدَمت تحيّة لرجلٍ من قبل، لكنها إذ عرفته من هو أجابته، هذه هي التي كانت تخاف الحديث مع رجل، صارت تتحدَّث مع ملاك بلا خوف.]
هكذا يرى كثير من الآباء أن السيِّدة العذراء كنموذج حيّ للعذارى اللواتي تكرَّسن للعبادة يسلُكن بحياءٍ شديدٍ، ولا يلتقين برجالٍ، بل يقضين حياتهنَّ في بيوتهنَّ أو في بيوت العذارى، لا يتعاملْن مع الرجال. لكننا لا نستطيع أن ننكر أن مع ما اتَّسَمت به العذراء من حياء شديد وتكريس كامل لحساب الرب، وعدم رغبتها في الزواج، كما يظهر من قولها للملاك: "كيف يكون لي هذا وأنا لست أعرف رجلاً" لكنها كانت الإنسانة الفعّالة في الجماعة المقدَّسة. فعّالة بصلواتها وتقواها، وفعّالة أيضًا بقبولها عطيّة الله الفائقة (تجسّد الكلمة في أحشائها)، وفعّالة في الخدمة، ففي أول معجزة للسيِّد المسيح طلبت منه "ليس لهم خمر" (يو 2: 3)، ورافقت السيِّد حتى الصليب، وبعد الصعود كانت مع التلاميذ تسندهم. فالبتوليّة لا تعني السلبيّة، إنما إيجابيّة الحّب الباذل المُعلن خلال العبادة والعمل، في حدود مواهب الإنسان التي يتسلّمها من الرب نفسه. لذلك يقول القدّيس أغسطينوس: [لا تكرم البتوليّة من أجل ذاتها، وإنما لانتسابها لله.]
سابعًا: جاء الوعد الإلهي للقدّيسة مريم على لسان الملاك:
"وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمِّينه يسوع.
هذا يكون عظيمًا وابن العلي يُدعى،
ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه،
ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد،
ولا يكون لمُلكه نهاية" [31-33].
تمتَّعت القدّيسة مريم بهذا الحبل الإلهي، إذ تجسّد ابن العلي فيها، هذا الذي ترقبه رجال العهد القديم كملكٍ يجلس على كرسي داود ويملك أبديًا، وكمخلِّصٍ لذا يدعى "يسوع" الذي يعني "يهوه خلاصي".

+ إن كان ابن الله قد صار ابنًا لداود، فلا تشك يا ابن آدم أنك تصير ابنًا لله.
إن كان الله قد نزل أعماقًا كهذه، فإنَّه لم يفعل هذا باطلاً، إنما ليرفعنا للأعالي!
وُلد بالجسد، لكي تولد أنت ثانية حسب الروح.
وُلد من امرأة، لكي تصير أنت ابنًا لله.
القدّيس يوحنا ذهبي الفم

ثامنًا: إذ سمعت القدّيسة مريم الوعد الإلهي بروح التواضع وفي إيمان، دُهشت إذ كان الوعد فريدًا لم يُسمع في الكتب المقدَّسة إنسانًا ناله، لهذا تساءلت:
"كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟!.
فأجاب الملاك، وقال لها:
الروح القدس يحلُّ عليكِ، وقوّة العليّ تظلِّلك،
فلذلك أيضًا القدِّوس المولود منك يُدعى ابن الله" [34-35].
أ. يظهر من حديث العذراء أنها قد نذرت البتوليّة، فلو أنها كانت تود الزواج لما قالت هكذا، بل تقول: "متى يكون هذا؟!" منتظرة تحقيق الوعد خلال الزواج. لقد وضعت في قلبها أن تكون بتولاً للرب، فحلّ البتول فيها، ليُقدِّس فيها بتوليّة الكنيسة الروحيّة. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [اليوم تحتفل الكنيسة البتول بالميلاد البتولي... فقد أكّد السيِّد المسيح بتوليّة القلب التي يريدها للكنيسة أولاً خلال بتوليّة جسد مريم. فالكنيسة وحدها هي التي تستطيع أن تكون بتولاً فقط حين ترتبط بعريس، ألا وهو ابن البتول، إذ تقدِّم له ذاتها تمامًا.]
ب. يقول القدّيس أمبروسيوس: [لم ترفض مريم الإيمان بكلام الملاك، ولا اعتذرت عن قبوله، بل أبدت استعدادها له، أما عبارة: "كيف يكون هذا؟" فلن تنم عن الشك في الأمر قط، إنما هو تساؤل عن كيفيّة إتمام الأمر... إنها تحاول أن تجد حلاً للقضيّة... فمن حقِّها أن تعرف كيف تتم الولادة الإعجازيّة العجيبة.] لذلك جاءت إجابة الملاك لها تكشف عن سرّ عمل الله فيها لتحقيق هذه الولادة: "الروح القدس يحلُّ عليك، وقوّة العليِّ تظلِّلك، فلذلك أيضًا القدِّوس المولود منك يُدعى ابن الله".
الروح القدس يحلُّ عليها لتقديسها، روحًا وجسدًا، فتتهيَّأ لعمل الآب الذي يُرسل ابنه في أحشائها يتجسّد منها. حقًا يا له من سرّ إلهي فائق فيه يًعلن الله حبُّه العجيب للإنسان وتكريمه له!
أما هذا الإعلان أحنت رأسها بالطاعة لتقول: "هوذا أنا أَمَة الرب ليكن لي كقولك" [38]. شك زكريَّا الكاهن في إنجاب زوجته، والبتول آمنت، وفي طاعتها قبِلت عمل الله، وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [لقد سَمت بإيمانها على الكاهن؛ فالكاهن أخطأ وتوارى، والعذراء قامت بإصلاح الخطأ.] هكذا صمت زكريَّا بسبب شكِّه وحملت العذراء بالكلمة المتجسّد أو النطق الإلهي الذي لن يصمت.
يرى القدّيس إيريناؤس أن طاعة القدّيسة مريم قد حلَّت موضع عِصيان أُمِّها حواء؛ الأخيرة بعِصيانها عقَّدت الأمر، وجاءت ابنتها تحِل العقدة بالطاعة.
ويرى اللاهوتيون أنه في هذه اللحظات التي قدَّمت الطاعة لله والخضوع قبلت التجسُّد، إذ لم يكن ممكنًا أن يتم التجسّد بغير إرادتها وقبولها للعمل، إذ يقدِّس الله الحريّة الإنسانيّة.
يقول القدّيس أمبروسيوس: [إنها تصف نفسها أَمََة للرب مع أنها اُختيرت أُمًا له، فإنَّ الوعد الذي تحقّق لم يُسقطها في الكبرياء.] ويقول القدّيس أغسطينوس أن السيِّد المسيح المتواضع لا يُعلِّم أُمة - في الحبل به- الكبرياء بل التواضع!
لقاء مريم باليصابات

إن كانت القدّيسة مريم قد صارت ممثَّلة للبشريّة المؤمنة، أو ممثَّلة للكنيسة بكونها قبلت الإيمان بوعد الله وانحنت ليحل كلمة الله فيها، فإنَّها إذ تمتَّعت بالكلمة داخلها لم تستطع إلا أن تنطلق "بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا" [39]، لتلتقي بنسيبتها اليصابات... صورة حيّة للكنيسة الحاملة للعريس فيها، والتي لن تستريح، بل تنطلق عَبر الأجيال كما على الجبال لكي تقدّم عريسها لكل نفس في العالم.
حسب المنطق البشري كان يلزمها أن تتوارى، وتبحث الأمر في نفسها كما مع خطيبها، لتدبير أمر الحبل والميلاد، لكنها وقد حملت ذاك الذي يحمل هموم العالم ويدبِّر كل الأمور لم تفكر فيما هو لنفسها، بل بروح الخدمة انطلقت إلى الجبال إلى مدينة يهوذا تخدم اليصابات.
إن حملنا مسيحنا في داخلنا ننطلق بقلب منفتح ونخرج عن "الأنا" متَّسعة قلوبنا بالحب للجميع، مشتهين خدمة الجميع!
يلاحظ في هذا اللقاء المبارك الآتي:
أولاً: حسب المنطق البشري يبحث الفقير عن الغَني، والمحتاج عمن يسد له احتياجه، والتلميذ عن معلِّم، أما حسب المنطق الإلهي فالكبير يطلب الصغير ويبحث عنه، لكي يضمُّه بالحب ويحمله على منكبيه. هكذا "الله أحبَّنا أولاً"، لقد بادر بالحب ونزل إلينا، إذ لا نقدر نحن أن نرتفع إليه. هو ينحني ليحملنا من التراب وينتشلنا من الأعماق ليدخل بنا إلى أحضان الآب ويرفعنا إلى سماواته. وهكذا إذ يحل فينا نجرى نحو الضعفاء ونبحث عن الكل لخدمتهم.
يقول العلامة أوريجينوس: [الممتازون يتقدَّمون إلى من هم أقل امتيازًا لمنحهم بعض المزايا. هكذا جاء المخلِّص إلى يوحنا ليقدِّس المعموديّة. وبمجرد أن سمعت مريم رسالة الملاك أنها ستحبل بالمخلِّص، وأن ابنة خالتها اليصابات حُبلى "قامت وذهبت بسرعة إلى الجبال ودخلت بيت اليصابات" [39-40]. يسوع وهو في بطن العذراء يُسرع بتقديس يوحنا المعمدان الذي كان لم يزل بعد في بطن أُمّه.] ويقول القدّيس أمبروسيوس: [من كان أرفع منزِلة يزور الأقل؛ مريم ذهبت إلى اليصابات، ويسوع ذهب إلى يوحنا إذ أراد يسوع أن يقدِّس معموديّة يوحنا بنفسه ليعتمد.]
إن حملنا مسيحنا القدِّوس نتقدَّس فننطلق إلى كل موضع مشتاقين أن يقدِّس الكل معنا!
ثانيًا: يقول العلامة أوريجينوس: [استحقَّت مريم أن تكون والدة الإله، فصار عليها أن تصعد الجبال وتبقى في المرتفعات.] وأيضًا يقول القدّيس أمبروسيوس: [أغريب على تلك التي امتلأت بالله أن ترتفع سريعًا إلى أعلى؟!]
ثالثًا: إذ حملت القدّيسة مريم كلمة الله محب البشر، جاء لقاؤها مع اليصابات رقيقًا للغاية، تحمل روح الخدمة في تواضع، لذلك يطالب القدّيس أمبروسيوس في تفسيره لإنجيل متى أن تتعلَّم العذارى من القدّيسة مريم رقتها وتواضعها وتكريمها للكبار. ما أحوجنا اليوم إلى إدراك أن نوالنا نعم الله، خاصة الرتب الكهنوتيّة، يلزم أن يدفعنا للخدمة المتواضعة بلا حب للكرامة أو التسلُّط، إنما بشوق لغسل الأقدام برقَّة!
رابعًا: دخلت مريم بيت اليصابات تحمل عريسها في أحشائها، لذلك إذ سلَّمت عليها يقول الإنجيلي: "فلما سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت اليصابات من الروح القدس" [41].
أقول ليتنا في زياراتنا ولقاءاتنا مع الآخرين نحمل إليهم مسيحنا القدِّوس الذي يبهج أحشاءهم الداخليّة، ويلهب روحه القدِّوس فيهم، عوض أن نحمل معنا أفكارًا شرِّيرة وكلمات إدانة فنملأهم غمًا ونطفئ الروح في داخلهم.
وقد لاحظ الدارسون أن كلمة "ارتكَض" بالعبريّة جاءت بمعنى "رقص"، هي ذات الكلمة التي استخدمت حين رقص داود النبي أمام التابوت.
خامسًا: إن كان ابتهاج الجنين في الأحشاء يشير إلى الثمر الروحي الداخلي في النفس، فإنَّ الجسد أيضًا يشترك مع النفس في هذا الثمر، لذلك انطلق لسان القدّيسة اليصابات يُعلن عمَّا في داخلها منسجمًا ومتناغمًا معه، إذ "صرخت بصوتٍ عظيم،ٍ وقالت: مباركة أنتِ في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أُم ربِّي إليّ؟! فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني. فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" [42-45].
بينما كان العالم كله يجهل كل شيء عن البشارة للقدّيسة مريم، إذ بالقدّيسة اليصابات تُعلن أُمومة مريم لربِّها، بالرغم من عدم وجود أيّة ظاهرة لهذا الحدث الإلهي. والأمر المُدهش أن هذه الأحداث العجيبة من ارتكاض الجنين مبتهجًا وامتلاء اليصابات بالروح القدس وشهادتها لأمومتها لربِّها تمَّت بمجرد إصغاء اليصابات لسلام مريم، وكأن ابن الله الساكن في أحشاء القدّيسة مريم قد تكلَّم بنفسه على لسان أُمِّه، وعمل خلال تصرُّفاتها.
لقد طوَّبت اليصابات مريم لأنها صارت أُمًّا لله خلال تجسّد الكلمة، وقد بقيت الكنيسة عبر الأجيال تطوَّبها، فقد وقف القدّيس كيرلس الكبير يتحدَّث أمام آباء مجمع أفسس، قائلاً: [السلام لمريم والدة الإله، الكنز الملوكي للعالم كله، المصباح غير المنطفئ، إكليل البتوليّة، صولجان الأرثوذكسيّة، الهيكل غير المفهوم، مسكن غير المحدود، الأم وعذراء. السلام لك يا من حملتِ غير المُحوى في أحشائك البتوليّة المقدَّسة.]

تسبحة العذراء

إذ انطلق لسان اليصابات يطوِّب العذراء لأنها آمنت بالمواعيد، وحملت كلمة الله في أحشائها، انطلق أيضًا لسان العذراء بالتسبيح لله. وهكذا تحوّل اللقاء إلي مُمارسة لحياة تعبُّديّة على مستوى تسبيحي ملائكي، يمجِّد الله ويُعلن أسراره الفائقة بفرح.
"فقالت مريم: تعظِّم نفس الرب،
وتبتهج روحي بالله مخلِّصي" [46-47].
لقد أساءت حواء إلى خالقها حين شوَّهت روحها بالعصيان، وأفسدت خليقة الله الصالحة، فلم تعد حياتها تمجّد الخالق ولا أعماقها تُعلن عن بهائه. وقد جاءت القدّيسة مريم تحمل كلمة الله في أحشائها، يردّ لنفسها جمالها الأول، وتصير روحها مبتهجة بكونها صورة الله ومثاله.
قول العذراء "تبتهج روحي بالله مخلِّصي" فيحمل مفهومًا لاهوتيًا هامًا أن القدّيسة مريم مع سموِّها العظيم تحتاج إلى "الخلاص" كسائر البشر، وتبتهج به، إذ وُلدت تحمل الخطيّة الأصليّة (الجديّة) التي ورثناها عن أبوينا الأوَّلين. لقد أدركت القدّيسة سّر تمتُّعها بالنعمة الإلهيّة، إذ قالت: "نظر إلى تواضع أمته". لم تقل أن الله نظر إلى صلواتها أو أصوامها أو سهرها أو عدلها أوحكمتها، لكنة "نظر إلى تواضع أَمَتِه". لقد عرفت الطريق الذي به تنطلق إلى مراحم الله وتغتصب عطاياه وهو "التواضع". فإن كان عدو الخير قد فقد مركزه خلال الكبرياء، فقد جعل الكبرياء فخًا يقتنص به كل بشر إلى ملكوت ظلمته، حارمًا إيَّاه من خالقه مصدر حياته وعلَّة بهجته.
"فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوِّبني، لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدِّوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتَّقونه" [48-50]. لقد أدركت القدّيسة مريم عظمة العطيّة التي نالتها إذ تمتَّعت بواهِب العطايا نفسه، تحمله في أحشائها، لذا جميع الأجيال (جميع المؤمنين عبر العصور) يطوِّبونها من أجل عمل الله معها. وها هي الكنيسة قد امتلأت ليتورجياَّتها بتطويبها، مُعلنه عمل الله فيها ومعها بتجسُّد الكلمة مخلِّص العالم.
إننا نطوِّبها عبر العصور، لا كعذراءٍ عاشت ثم ماتت، وإنما كعذراء تجلّى في حياتها عمل الله الخلاصي الفائق. فكل مؤمن يتطلَّع إليها فيرى فيها نعمة الله الفائقة التي وُهبت للبشريّة. إن كانت العذراء قد تمتَّعت بأمومة للسيِّد المسيح إذ حملته متجسِّدا في أحشائها كما حملته بالإيمان في قلبها، فإنَّ النفس التي تتمتَّع بالشركة مع الله تنعم أيضًا بنوع من الأمومة، لذلك يقول الأب ميثودوسيوس: [الكنيسة في حالة تمخُّض إلى أن يتشكَّل المسيح ويولد داخلنا. فكل قدّيس يتمتَّع بشركة مع المسيح كأنما يولد المسيح فيه من جديد!]
ويقول القدّيس أمبروسيوس: [احرص أن تتمِّم مشيئة الآب لكي تكون أُمًا للمسيح (مر 3: 35).]
يعلِّق القدّيس كيرلس الكبير على بقيّة تسبحة العذراء، قائلاً: [صنع قوّة بذراعه، شتَّت المستكبرين بفكر قلوبهم" [51]:
[تشير مريم "بالذراع" إلى الرب يسوع المسيح الذي ولدَته، "وبالمستكبرين" إلى إبليس وجنوده الذين أغواهم الكبرياء فسقطوا في حضيض الذُل والمسكَنة، بل وتشير مريم أيضًا بالمستكبرين إلى حكماء الإغريق الذين أبوا أن يقبلوا جهالة المسيحيّة كما اِدَّعوا، وإلى جمهور اليهود الذين لم يؤمنوا بيسوع المسيح فتفرَّقوا في أطراف الأرض.
أنزل المسيح الأعزَّاء عن الكراسي، فقد تضعضع سلطان إبليس وجنوده فلم يعودوا يملكون العالم بأن يحفظوا في أسرهم جمهور الجنس البشري. وسقط الكتبة والفرِّيسيُّون اليهود من مجدهم العالي، لأنهم تكبَّروا عن قبول السيِّد المسيح.
"أنزل الأعزاء عن الكراسي، ورفع المتَّضعين" [52].
غرق جنود إبليس وحكماء الإغريق وكتبة اليهود وفرِّيسوهم في بحر العظمة الفارغة والخيلاء الكاذبة، فأذلَّهم الله ورفع عليهم قومًا اِتَّضعت قلوبهم وخلُصت ضمائرهم، فقد أُعطوا "سلطانًا ليدوسوا الحيَّات والعقارب وكل قوّة العدو ولا يضرُّهم شيء" (لو 10: 19)، ولا تؤثِّر فينا المؤامرات الدنيئة التي يحرِّك أطرافها أولئك المتكبِّرون الغادرون.
ألم تكن لليهود يومًا ما دولة واسعة الأطراف، ونظرًا لعدم إيمانهم انكمشوا حيث هم الآن، أما الأمم فقد ساعدهم إيمانهم على تبوُّء منزلة عالية ومكانة سامية.
"أشبع الجياع خيرات، وصرف الأغنياء فارغين" [53].
يقصد بالجياع الجُبْلة البشريّة، فإنَّ جميع الناس ماعدا اليهود أعوزهم مجد الله، وذاقوا مرارة الجوع. لم يكن هناك من بين الناس سوى اليهود الذين استمتعوا بلذَّة الناموس، وتثقَّفت عقولهم بتعاليم الرسل والأنبياء، إذ "لهم التبنِّي والمجد والعهود والمواعيد" (رو 9: 4). ولكن قادهم غرورهم إلى هاوية الشموخ والكبرياء، فرفضوا السجود للإله المتجسِّد، فلا عجب أن عادوا بلا إيمان ولا علم ولا رجاء ولا نعمة، فقد نُبذوا من أورشليم الأرضيّة، وطُردوا من حياة المجد والنعمة التي ظهرت، لأنهم لم يقبلوا سلطان الحياة وصلبوا رب المجد، وهجروا ينبوع الماء الحّي، ولم يقدِّروا قيمة الخبز الحّي النازل من السماء. فلا غرابة بعد ذلك إن ذاقوا مرارة جوع لا يضارعه جوع آخر، ويحرق لسانهم عطش دونه أي عطش آخر، لأن جوعهم وعطشهم لم يكونا بماديِّين ملموسين، ولكنهما معنويَّان روحيَّان، أو كما يقول عاموس: "هوذا أيام تأتي يقول السيِّد الرب أُرسل جوعًا في الأرض لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء بل لاِستماع كلمات الرب" (عا 8: 11).
أما الوثنيُّون الذين آمنوا فكثيرًا ما آلمهم الظمأ الروحي وتملَّك أفئدتهم سلطان البؤس والشقاء، فقد أُشبِعت نفوسهم من دسم الكلمة الإلهيّة وارتوت قلوبهم بالماء الحيّ الشافي، لأنهم قبلوا الرب يسوع المسيح، فحظوا بالمواعيد التي كانت لليهود قبلاً.
"عضَّد إسرائيل فتاة ليذكر رحمة" [54].
لم يُعضَّد إسرائيل حسب الجسد وهو الذي امتاز بالكبرياء والخيلاء، وشمَخ بأنفه معتمدًا على حسَبه ونسبِه، بل عضَّد إسرائيل حسب الروح، ذلك الذي يُقدِّر قيمة هذا الاسم فيعمل على رِفعته وإِكرامه، وذلك بالثقة بالله وبالإيمان بابنه والحصول على نعمه التبني من الرب يسوع، طبقًا لمواعيد الله مع أنبياء العهد القديم وبطاركته.
وتُشير الآية أيضًا إلى جمهور اليهود بالجسد، وهم أولئك الذين آمنوا بالرب يسوع المسيح، فإنَّ الله جلّ شأنه وعد إبراهيم قائلاً: "ويتبارك في نسلك جميع قبائل الأرض"، لأنه حقًا "ليس يمسك الملائكة بل يمسك نسل إبراهيم" (عب 2: 16).]
أخيرًا إذ أورد التسبحة قال: "فمكثت مريم عندها ثلاثة أشهر، ثم رجعت إلى بيتها" [56].
يعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا القول الإنجيلي هكذا: [إن كان حضور مريم عند اليصابات وسلامها لها كافيان أن يجعلا الجنين يرتكِض مبتهجًا، واليصابات تتنبَّأ بعد أن امتلأت بالروح القدس... إن كان هذا قد تّم في ساعة واحدة، يمكننا أن نتخيَّل التقدَّم العظيم الذي أحرزه يوحنا خلال الثلاثة شهور التي مكثتهم مريم عند اليصابات. فإن كان في لحظة واحدة أو على الفور ركض الطفل في أحشاء أُمه، أو بمعنى آخر قفز متهلَّلاً وامتلأت اليصابات من الروح القدس، أفليس من المعقول أن اليصابات ويوحنا قد ازدادا في النمو خلال الثلاثة أشهر، وهما بالقرب من والدة الإله، والمخلِّص نفسه حاضر! في هذه الأشهر الثلاثة كان يوحنا يتقوَّى في حلبة الأبطال، ويُعِّد وهو في بطن أُمه لميلاد عجيب وتثقيف أعجب!... إذ عاش في البريّة إلى أن حان وقت ظهوره لإسرائيل.]
بنفس المعنى يقول القدّيس أمبروسيوس: [أيّة قامة في تقديرنا يستطيع أن يبلغها الجنين من وجود مريم في بيته هذه الفترة الطويلة؟!... هكذا كان النبي يأخذ المسحة المقدَّسة ويتهيَّأ للمعركة الكبرى.]
+ + +
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رسالة هامة من البريد الإلهي : لا تيأس من توبتك Misho Fayez منتدى المواضيع الهامة 0 09-21-2011 10:47 PM
عيد الغطاس (الظهور الإلهى) Misho Fayez منتدى التأملات 2 01-20-2011 04:25 AM
قاعدة العراق" تتبنى الهجوم على سيدة البشارة وتتوعد أقباط مصر المصرى الأصيل منتدى اخبارالعالم المسيحى 1 11-02-2010 12:11 AM
سينفونية الحب الإلهى Misho Fayez منتدى التأملات 4 06-06-2010 05:18 PM
"أعياد الظهور الإلهي" في كتابات مؤرخ مسلم sallymessiha منتدى الطقوس 2 01-22-2009 01:01 AM


الساعة الآن 12:07 PM


† هدف خدمتنا: "‎ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب‎" مزمور 34 : 8 †
† مبدأ خدمتنا: "ملعون من يعمل عمل الرب برخاء‎" ارميا 48 : 10 †
† شعار خدمتنا: "ليس لنا يا رب ليس لنا لكن لاسمك أعط مجدا‎" مزمور 115 : 1 †